الثلاثاء، 13 ديسمبر 2011

واحد منيا قصة قصيرة

واحد منيا
واحد المنيا
المنيا يا باشا؟
منيا منيا
فى ضوضاء موقف سيارات الميكروباص القريب من ميدان المنيب بالجيزة، تختلط مئات الأصوات، كانها خلفية موسيقية من الأزيز المستمر، مع قليل من التركيز تستطيع ان تميز كل صوت علي حد، فصوت مواتير الميكروباص الديزيل الدائر له صوت تكتكة مستمرة مميزة، والعشرات من آلات التنبيه مرتفعة الصوت تكاد تخرق أذنيك، واصوات النداء المستمر من الحميلة الذين يقومون بالنداء بأعلي اصواتهم بأسماء مدن وجه قبلي المختلفة، سمالوط و ابوقرقاص و مغاغة ، ويختلط ذلك باصوات المئات من البشر الذين يملئون الموقف، يتحدثون، يصرخون، يضحكون وتكاد تسمع صوت حركتهم المستمرة الغير المنتظمة فى كل اتجاه، و تكتمل الخلفية بصوت الباعة الجائلين يملئون جنبات الموقف بصياح مستمر على بضائعهم المتنوعة.

لموقف الميكروباص رائحة مميزة، يمكنك ان تشعر بها من علي بعد عدة أمتار و انت تقترب من الموقف، رائحة عادم السيارات ممزوجة برائحة عرق بشر يتحركون، رائحة نافذة تصل الى انفك علي الفور، ولكنك سرعان ما تعتادها حين تصبح رائحتك جزء من هذ الخليط العجيب من الروائح.

الأضواء الخافتة التى تضئ الموقف تنبعث من اربع لمبات متفرقة علي أعمدة حديدية يدوية الصنع، اما اعمدة إضاءة الشارع فتقف ذليلة منطفئة، ما عدا عامود إضاءة واحد يقف جاهدا محاربا الإهمال، يرسل نبضات إضاءة متقطعة من لمبة تريد ان تحترق، و بالكاد تضيء هذه الانوار مدخل الموقف ومخرجه، ليغط باقي الموقف فى ظلام دامس تخترقه ظلال حركة سيارات الميكروباص وأضواء كشافتها من حين الى اخر.

وقفت اسماء بجانب كشك نجمة المنيب القريب من مدخل الموقف، تراقب الميكروباص المتجه الي المنيا باهتمام، وفي يدها زجاجة سفن اب خضراء لم تشرب منها شيء، انها تشعر بامان اكثر وهى بجانب الكشك المضيء بدعاية شركات الشيبسي والمشروبات الغازية، لقد أوشك الميكروباص على ان يكتمل العدد، فبامكانها ان تميز ان الكنبة الخلفية قد امتلئت بالفعل بثلاث أشخاص، رجل عجوز يلبس جلباب ازرق، اخرج ذراعه بالكامل من شباك الخلفي و بجانبه شاب لم تستطع ان تميز ملامحه من الظلام و امتلئ الكرسي الاخير بما يبدو انه طفلة صغيرة.

"انا باكره الكنبة اللي ورا فى اخر العربية، بتخبط جامد فى المطبات" فكرت اسماء في ذلك وهى تدقق النظر فى الكنبة الصغيرة التالية، انها مكانها المفضل و لكنها بالفعل ممتلئة بشابة فى متوسط العمر ترتدي بلوزة ملونة بألوان زاهية وبجانبها سيدة اكبر فى السن على مايبدو انها أمها، تحتضن شنطة بلاستيكية بحرص شديد.

ربنا يكون مع اللي هايركب فى الكرسي اللي جانبهم فهو من أسواء الكراسي التى في الميكروباص، فهو كرسي بيتفتح و بيتقفل و غير مريح علي الاطلاق و خصوصا فى سفرية طويلة زي دي. ابتسمت اسماء باهتة و قررت ان تنتظر ان يمتلئ هذا الكرسي ثم تتحرك الي الميكروباص علي امل ان تلحق بالكرسي الذي خلف السائق مباشرة.

و في حركة عفوية نظرت اسماء الي موبايلها، لتري ان هناك من يتصل بها، و علي ما يبدو انه في هذه ضوضاء لم تسمع رنة الموبايل و ردت اسماء علي الفور

" أيوة يا بابا، ازيك"

أيوة يا اسماء ركبتي و لا لسة؟
لسه يا بابا ان مستنية الميكروباص، وهايتحرك بعد شوية انشاء الله

طب يلا قوام ده الساعة داخلة عل تمانية و انتي لسه ما تحركتيش، كان ايه لازمته السفر المتأخر ده

ما انا قولتلك يا بابا، كان لازم أجيب المذكرات دى من عند لمياء صاحبتي علشان اذاكر فيها فى الإجازة دي ان شاء الله و أتاخرت فى السكة قوي

طب يلا اسماء انا و امك قلقانين عليكي قوي، و كلمينا اول ماتبقي فى اول الطريق

حاضر يا بابا، حاضر

و سمعت اسماء صوت أمها بجانب والدها و هى تصيح، هي لسه ماركبتش كل ده؟ معقولة التأخير ده كله؟

و قررت اسماء ان تسرع بانهاء المكالمة تفاديا لمزيد من الحوار

طب ان حاقفل باه يابابا، علشان رصيدك ما يخلصش، سلام، سلام

و اغلقت اسماء موبايلها ونظرت الي الميكروباص مجدد، وفوجئت بانه علي وشك الامتلاء، وان الكرسي التى كانت تامل ان تركب فيه قد امتلئ بالفعل برجل فى متوسط العمر يرتدي نظارة طبية، ويدخن بشراهة، والإسواء انه وضع علي الكرسي الذي بجانبه شنطة ضخمة، ملفوفة بحبال خضراء، ولم يتبق سوي الكرسي الذي بجانب باب الميكروباص،

ياه ده كرسي ضايع، انا حاخليه يشيل الشنطة وأقعد فى المكان ده باي شكل،

ووضعت اسماء زجاجة المياه الغازية في صندوق الفوارغ و تحركت بخطي سريعة الي الميكروباص، و مرت بأقدامها علي أرضية الموقف اللزجة من شحوم وزيوت السيارات، غير مكترسة بما سيتركه ذلك من اثار على ملابسها، يجب ان تركب هذا الميكروباص باي شكل.

حضرتك ممكن تنزل الشنطة دي لوسمحت او تحطها علي الشبكة؟

نظر اليها الرجل من خلف دخان سيجارته بلامبالة، وقال بلهجة صعيدية ثقيلة انا دافع فيها أجرة، مش عايزها علي الشبكة

ازاي ياعني؟ الشنطة تقعد و انا مااقعدش؟

ماهو الكرسي دهو فاضي اهو

نظرت اسماء بحسرة الي الكرسي الوحيد المتبقي، كرسي متعب جداً فى رحلة زي دي....

و كنت علي وشك الاعتراض مجددا حين تدخل المنادي بصوت جهوري، كتركبي و لا ايه يا أبلة؟ في ناس وقفة مستنية

و نظرت اسماء لتجد شاب يقف خلفها، ينتظر انتهاء هذا الحوار، ليعلم اذا كان له مكان في الميكروباص ام لا، و اتخذت اسماء قرارها بالركوب و أمرها الي الله

و اغلق المنادي باب الميكروباص بقوة، و هو ينادي يلا يا صلاح أتكل علي الله، كامل عدد يا أسطي...

وتحرك الميكروباص أخيرا فى طريقه الى المنيا، وتحسست اسماء حجابها وتأكدت من عدلته و تمتمت دعاء الركوب بصوت خافت، اهاي كلها ثلاث ساعات استحملها بالطول ولا بالعرض، ونظرت فى غيظ الى الشنطة البلاستيكية الممدة بجانبها و شعرت انها تكاد تخرج لها لسانها فى استهزاء.

و تحرك الميكروباص من زحام الموقف متجها الي طريق الصعيد الغربي ، ولم تمض دقائق و صاح السائق: الاجرة يا أساتذة

وبدء الجميع فى اخراج الاجرة، وصاح الرجل العجوز من الخلف بصوت أجش متكسر، معاك فكة خمسين جنيه يا اسطي؟

ونظر سائق الميكروباص الي الخلف في لمحة سريعة ثم توجه بحديثه الي اسماء

معلش ممكن تلمي انتي الاجرة يا ابلة؟

ولعنت اسماء في سرها وقالت هو انا اللي كمان حالم الاجرة؟ وايه حكاية ابلة ده يا أخوانا ده انه لسه طالبة جامعية

و لم ينتظر الركاب موافقة اسماء او رفضها، اذا قامت الفتاة الجالسة خلفها بمد يدها بمبلغ مائة جنيها وهى تقول اتنين من الماية لو سمحتي

الحمد الله على الاقل ماقلتليش يا ابلة هي كمان و مدت اسماء يدها وأخذت الفلوس وبدءت مناوشات جمع الاجرة من الركاب وحساب الباقي و هي عملية بسيطة لو كل واحد كان عامل حسابه وجايب فكة على اد الاجرة، المشكلة كله جاي يفك فى الميكروباص.

و تاملت اسماء تركيبة ركاب الميكروباص، سبحان الله الميكروباص ده فيه من كل الأعمار، الراجل العجوز اللي وراه يجي بتاع سبعين سنة، و الشاب اللي جانبه عنده يجي خمسة و عشرين و معه اخته ماتزيدش عن ستة سنين.

والبنت اللي ورأيا تجيلها فى الثلاثينات كدة و أمها ماشية فى الخمسينات ام الراجل ابوشنطة، انا بصراحة حاسميه ابو قفة لانه هو شبه القفة فعلا، و خنقنا بالسجائر بتاعته، يجي فى الأربعينات كدة.

ونظرت اسماء الي الامام لتستكمل بحثها الميداني عن إعمار راكبي الميكروباص، حينما سمعت صرخة الشاب الجالس بجانب السائق، صرخة عالية فزعة " حاسب يا اسطي ، حاسب يااسطي!"

وخطفت عين اسماء اضاءة قوية من الامام ثم ارتطام قوي دفعها الي الخلف بقوة شديدة، وسمعت صوت التواء الحديد وصرير فرامل ، ورائحة احتراق قوية ثم صرخات فزع اخري كثيرة، اصابتها بالرعب والخوف، وفؤجئت بسقف الميكروباص يلامس رأسها، وأرجلها لم تعد تلمس الارض، وحاولت اسماء ان تستوعب ماحدث فى هذه الثواني القليلة، لكنها شعرت بالم شديد فى ذراعيها ورأت الدماء تسيل من حولها.

لقد اصطدم الميكروباص بسيارة نقل بمقطورة، وجها لوجه، وفى محاولة يائسة من السائق لتفادي سيارة النقل قام بالأنحراف بقوة، لينقلب الميكروباص مرتان، متحولا الي كتلة من الحديد الممزوجة بالأعضاء البشرية، قبل ان يسكن عل جانب طريق القاهرة الصحرواي الغربي.

و توقفت السيارات، وتجمهر السائقين فى محاولة لإخراج الاحياء تعالت الصرخات " حد يكلم الإسعاف يا ناس" "ياساتر يارب يا ساتر"

حينما لم تتصل اسماء كما وعدته شعر ابو اسماء بالقلق الشديد وازداد قلقه حين حاول الاتصال بها ووجد المحمول مغلق و نظر فى ساعته ووجد انها تشير الي العاشرة مساء و نظر الي زوجته قائلا

انا مش حاقدر أستني اكتر من كدة ان قلبي متوغوش

و توجه ابو اسماء عالفور الى جاره ابومحمد الذي يمتلك سيارة أجرة

انا قلقان قوي اسماء مراجعتش لغاية دلوقتي، وطالعة من مصر من الساعة تمانية، انا عايز اطلع على الطريق أشوفها

ما تقلقش كدة يا ابو اسماء ربنا يجبيهلك بالسلامة، انا دقيقة و حالبس، استناني قدام العربية

ولم يتاخر ابو محمد بالفعل وانطلق الاثنان الي الطريق فى صمت، و لم يتوقف ابواسماء عن قرأة القران طوال الطريق، و حين شاهد موقع الحادثة وحطام الميركوباص و سيارة النقل علي جانب الكريق، لم يجد ما يقوله سوي لا حول و لاقوة الا بالله، لا حول ولا قوة الا بالله

و توجه ابو اسماء فى لهفة الى عسكري المرور الواقف بجانب حطام الميكروباص وسئل فى صوت مرتعش

هى الناس اللي كانوا جواه ودهوم علي فين؟

ونظر العسكري اليه فى تعاطف شديد، ودهوم علي مستشفي المنيب فى مصر يا حاج من يجي ساعة، مافيش حد طلع عايش، دي حدثة موت يا حاج

وخر ابو اسماء على قدميه، عاجزا عن الحركة و استند علي ذارع جاره الذي قال فى صوت قلق

وحد الله يا عبد الحميد، مين قالك بس ان اسماء كنت راكبة هنا

قلبي الل بيقولي، قلبي المقبوض هو اللى حاسس

طب يلا بينا علي المستشفي

و فى مدخل المستشفى توجه ابو اسماء الى قسم الطوارئ فى لهفة، و قابلهم الترمجي بهدوء،

انتوا جايين علشان الحادثة؟

أيوة يا بني وحياتك طمنا

تعال وراي يا حاج، و توجه التمرجي الى ممر خلفي و تبعه ابواسماء وجاره فى عجلة، وزادت رائحة المستشفى النافذة من المطهرات والبنج القوية، شعورهما بالانقباض الشديد و الغثيان

انت واخدنا عل فين يا بني

علي المشرحة يا حاج

وفتح التمرجي باب المشرحة، ليرى ابو اسماء مالايقل عن عشرة جثث مغطاة، موضوعة على الارض، و اقترب من الجثث و هو يقول انت بتدور علي مين حاج؟

و صرخ ابو اسماء في صوت متحشرج: بنتي بنتي اسماء عندها اربع و عشرين سنة اربع و لم يعد ابو اسماء قادر علي ان ينطق بمزيد من الكلمات

و اقترب التمرجي من الجثة الاولي وهو يقول دي لراجل كبير فى السن، واللي هناك دي بتاعة طفلة صغيرة، ودول بتوع شباب علي رجالة
واللي هناك دي بتاعة واحدة ست تعال قرب كدة يا حاج

واقترب ابو اسماء و ارجله تكاد تخونه فى كل خطوة يقترب بها من التمرجي، الذي أزاح الغطاء البلاستيكي عن وجه الجثة الراقدة بلا حياة، هى دي بنتك يا حاجة؟

ونظر ابو اسماء في فزع الي وجه الجثة، و صرخ لا دي مش بنتي، دي مش اسماء

وانفرجت اسارير التمرجي و هو يقول يبقى بنتك عايشة يا حاج، ان شاء الله بنتك عايشة، فى حالتين نقلهوم الفرنساوي عايشين، هم ماجابوش هنا غير الي ماتوا يا حاج، اصل الموت ما بيفرقش يا حاج، اصل الموت ما بيفرقش.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق